فصل: الآية رقم ‏(‏40‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏40‏)‏

‏{‏حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ‏}‏

هذه موعدة من اللّه تعالى لنوح عليه السلام، إذا جاء أمر اللّه من المطر الهتَّان، الذي لا يقلع ولا يفتر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر‏}‏، وأما قوله‏:‏ ‏{‏وفار التنور‏}‏، فعن ابن عباس‏:‏ التنور وجه الأرض، أي صارت الأرض عيوناً تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماء، وهذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف، فحينئذ أمر اللّه نوحاً عليه السلام أن يحمل معه السفينة ‏{‏من كل زوجين اثنين‏}‏ من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح، وغيرها من النباتات اثنين ذكراً و انثى، وقوله‏:‏ ‏{‏وأهلك إلا من سبق عليه القول‏}‏ أي واحمل فيها أهلك وهم أهل بيته وقرابته، ‏{‏إلا من سبق عليه القول‏}‏ منهم من لم يؤمن باللّه، فكان منهم ابنه يام الذي انعزل وحده، وامرأة نوح وكانت كافرة باللّه ورسوله، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن آمن‏}‏ أي من قومك، ‏{‏وما آمن معه إلا قليل‏}‏ أي نزر يسير مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فعن ابن عباس‏:‏ كانوا ثمانين نفساً منهم نساؤهم، وعن كعب الأحبار‏:‏ كانوا اثنين وسبعين نفساً، وقيل كانوا عشرة، واللّه أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏41 ‏:‏ 43‏)‏

‏{‏ وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ‏.‏ وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ‏.‏ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ‏}‏

يقول تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام للذين أمر بحملهم معه في السفينة أنه قال‏:‏ ‏{‏اركبوا فيها بسم اللّه مجراها ومرساها‏}‏ أي بسم اللّه يكون جريها على وجه الماء، وبسم اللّه يكون منتهى سيرها وهو رسوها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين‏}‏، ولهذا تستحب التسمية في ابتداء الأمور، عند الركوب على السفينة وعلى الدابة، كما روى الطبراني، عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا‏:‏ بسم اللّه الملك ‏{‏وما قدروا اللّه حق قدره - الآية، - ‏{‏بسم اللّه مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم‏}‏‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن ربي لغفور رحيم‏}‏ مناسب عند ذكر الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين فذكر أنه غفور رحيم كقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك لسريع العقاب * وإنه لغفور رحيم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وهي تجري بهم في موج كالجبال‏}‏ أي السفينة سائرة بهم على وجه الماء، الذي قد طبق جميع الأرض، حتى طغت على رؤوس الجبال، وارتفع عليها بخمسة عشر ذراعاً، وقيل بثمانين ميلاً، وهذه السفينة جارية على وجه الماء بإذن اللّه وكنفه وعنايته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ونادى نوح ابنه‏}‏ الآية، هذا هو الابن الرابع واسمه يام وقيل كنعان، وهو الهالك، وأما الناجي من ولد آدم فهو سام، وحام، ويافث وكان كافراً، دعاه أبوه أن يؤمن ويركب معهم، ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون، ‏{‏قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء‏}‏ اعتقد بجهله أن الطوفان لا يبلغ إلى رؤوس الجبال، وأنه لو تعلق في رأس جبل لنجّاه ذلك من الغرق، فقال له أبوه نوح عليه السلام ‏{‏لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم‏}‏ أي ليس شيء يعصم اليوم من أمر اللّه، وقيل إنّ ‏{‏عاصم‏}‏ بمعنى معصوم كما يقال طاعم وكاس، بمعنى مطعوم ومكسو ‏{‏وحال بينهما الموج فكان من المغرقين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏44‏)‏

‏{‏ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ‏}‏

يخبر تعالى أنه لما أغرق أهل الأرض كلهم إلا أصحاب السفينة، أمر الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر ‏{‏وغيض الماء‏}‏، أي شرع في النقص، ‏{‏وقضي الأمر‏}‏ أي فرغ من أهل الأرض قاطبة ممن كفر باللّه لم يبق منهم ديار، ‏{‏واستوت‏}‏ السفينة بمن فيها ‏{‏على الجودي‏}‏، قال مجاهد‏:‏ وهو جبل بالجزيرة أرست عليه

سفينة نوح عليه السلام، وقال قتادة‏:‏ استوت عليه شهراً حتى نزلوا منها وأبقى اللّه السفينة على الجودي عبرة وآية، حتى رآها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت وصارت رماداً، وقال الضحاك‏:‏ الجودي جبل بالموصل، وقال بعضهم‏:‏ هو الطور، وقال كعب الأحبار‏:‏ إن السفينة طافت ما بين المشرق والمغرب قبل أن تستقر على الجودي، وقال قتادة وغيره‏:‏ ركبوا في عاشر شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوماً، واستقرت بهم على الجودي شهراً، وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم، وقد ورد نحو هذا في حديث مرفوع رواه

ابن جرير، وأنهم صاموا يومهم ذلك، واللّه أعلم، وقوله‏:‏ ‏{‏وقيل بعدا للقوم الظالمين‏}‏ أي هلاكاً وخساراً لهم وبعداً من رحمة اللّه، فإنهم قد هلكوا عن آخرهم فلم يبق لهم بقية، وقد روى ابن جرير عن عائشة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لو رحم اللّه من قوم نوح أحداً لرحم أم الصبي‏)‏

 الآية رقم ‏(‏45 ‏:‏ 47‏)‏

‏{‏ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ‏.‏ قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ‏.‏ قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ‏}‏

هذا سؤال استعلام من نوح عليه السلام عن حال ولده الذي غرق‏:‏ ‏{‏فقال إن ابني من أهلي‏}‏ أي وقد وعدتني بنجاة أهلي ووعدك الحق الذي لا يخلف، فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين، ‏{‏قال يا نوح إنه ليس من أهلك‏}‏ أي الذين وعدت إنجاءهم لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم‏}‏ فكان هذا الولد ممن سبق عليه القول بالغرق، لكفره ومخالفته أباه نبي اللّه نوحاً عليه السلام، قال ابن عباس‏:‏ هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية، وقال عكرمة‏:‏ إنه عمل عملاً غير صالح، ويروى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ بذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏48‏)‏

‏{‏ قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ‏}‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ لما أراد اللّه أن يكف الطوفان أرسل ريحاً على وجه الأرض فسكن الماء، وانسدت ينابيع الأرض وأبواب السماء، يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وقيل يا أرض ابلعي ماءك‏}‏ الآية، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر، وكان استواء الفلك على الجودي فيما يزعم أهل التوراة في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه، وفي أول يوم من الشهر العاشر رأى رؤوس الجبال، وظهر البر، وكشف نوح غطاء الفلك ‏{‏قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك‏}‏ الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏49‏)‏

‏{‏ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ‏}‏

يقول تعالى لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم هذه القصة وأشباهها ‏{‏من أنباء الغيب‏}‏ يعني من أخبار الغيوب السالفة نوحيها إليك كأنك شاهدها ‏{‏نوحيها إليك‏}‏ أي نعلمك بها وحياً منا إليك، ‏{‏ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا‏}‏ أي لم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها حتى يقول من يكذبك إنك تعلمتها منه، بل أخبرك اللّه بها مطابقة لما كان عليه الأمر الصحيح، كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك، فاصبر على تكذيب من كذبك من قومك وأذاهم لك فإنا سننصرك ونحوطك بعنايتنا، ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، كما فعلنا بالمرسلين حيث نصرناهم على أعدائهم ‏{‏إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا‏}‏ الآية، ‏{‏فاصبر إن العاقبة للمتقين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏50 ‏:‏52‏)‏

‏{‏ وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ‏.‏ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ‏.‏ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏و‏}‏ لقد أرسلنا ‏{‏إلى عاد أخاهم هودا‏}‏ آمراً لهم بعبادة اللّه وحده لا شريك له ناهياً لهم عن الأوثان التي افتروها واختلقوا لها أسماء الآلهة، وأخبرهم أنه لا يريد منهم أجرة على هذا النصح والبلاغ من اللّه إنما يبغي ثوابه من اللّه الذي فطره، ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة، ثم أمرهم بالاستغفار الذي فيه تكفير الذنوب السالفة وبالتوبة عما يستقبلون، ومن اتصف بهذه الصفة يسر اللّه عليه رزقه وسهل عليه أمره وحفظ شأنه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يرسل السماء عليكم مدرارا‏}‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من لزم الاستغفار جعل اللّه له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب‏)

 الآية رقم ‏(‏53 ‏:‏ 56‏)‏

‏{‏ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ‏.‏ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ‏.‏ من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ‏.‏ إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ‏}‏

يخبر تعالى أنهم قالوا لنبيهم‏:‏ ‏{‏ما جئتنا ببينة‏}‏ أي بحجة وبرهان على ما تدعيه، ‏{‏وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك‏}‏ أي بمجرد قولك اتركوهم نتركهم ‏{‏وما نحن لك بمؤمنين‏}‏ بمصدقين، ‏{‏إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء‏}‏ يقولون ما نظن إلا أن بعض الآلهة أصابك بجنون وخبل في عقلك، بسبب نهيك عن عبادتها وعيبك لها، ‏{‏قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه‏}‏، يقول‏:‏ إني بريء من جميع الأنداد والأصنام، ‏{‏فكيدوني جميعا‏}‏ أي أنتم وآلهتكم إن كانت حقاً ‏{‏ثم لا تنظرون‏}‏ أي طرفة عين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إني توكلت على اللّه ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها‏}‏ أي تحت قهره وسلطانه، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه، فإنه على صراط مستقيم، وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة، ودلالة قاطعة على صدق ما جاء هم به، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام، التي لا تنفع ولا تضر، بل هي جماد لا تسمع ولا تبصر، ولا توالي ولا تعادي، وإنما يستحق إخلاص العبادة اللّه وحده، الذي ما من شيء إلا تحت قهره وسلطانه، فلا إله إلا هو ولا رب سواه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏57 ‏:‏ 60‏)‏

‏{‏ فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ‏.‏ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ‏.‏ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد ‏.‏ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود ‏}‏

يقول لهم هود‏:‏ فإن تولوا عما جئتكم به من عبادة اللّه ربكم وحده لا شريك له، فقد قامت عليكم الحجة بإبلاغي إياكم رسالة اللّه التي بعثني بها، ‏{‏ويستخلف ربي قوما غيركم‏}‏ يعبدونه وحده ولا يشركون به ولا يبالي بكم فإنكم لا تضرونه بكفركم بل يعود وبال ذلك عليكم، ‏{‏إن ربي على كل شيء حفيظ‏}‏ أي شاهد وحافظ لأقوال عباده وأفعالهم، ‏{‏ولما جاء أمرنا‏}‏ وهو الريح العقيم أهلكهم اللّه عن آخرهم ونجى هوداً وأتباعه من عذاب غليظ برحمته تعالى ولطفه، ‏{‏وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم‏}‏ كفروا بها وعصوا رسل اللّه وذلك أن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء، فنّزل كفرهم منزلة من كفر بجميع الرسل ‏{‏واتبعوا أمر كل جبار عنيد‏}‏ تركوا اتباع رسولهم الرشيد، واتبعوا أمر كل جبار عنيد، فلهذا اتبعوا في هذه الدنيا لعنة كلما ذكروا، وينادى عليهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ‏{‏ألا إن عادا كفروا ربهم‏}‏ الآية، قال السدُّي‏:‏ ما بعث نبي بعد عاد إلا لعنوا على لسانه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏61‏)‏

‏{‏ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ ‏{‏و‏}‏ لقد أرسلنا ‏{‏إلى ثمود‏}‏ وهم الذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة وكانوا بعد عاد فبعث اللّه منهم ‏{‏أخاهم صالحا‏}‏ فأمرهم بعبادة اللّه وحده، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏هو أنشأكم من الأرض‏}‏ أي ابتدأ خلقكم منها خلق أباكم آدم،

‏{‏ واستعمركم فيها‏}‏ أي جعلكم عماراً تعمرونها وتستغلونها، ‏{‏فاستغفروه‏}‏ لسالف ذنوبكم ‏{‏ثم

توبوا إليه‏}‏ فيما تسقبلونه ‏{‏إن ربي قريب مجيب‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان‏}‏ الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏62 ‏:‏ 63‏)‏

‏{‏ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ‏.‏ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير ‏}‏

يذكر تعالى ما كان من الكلام بين صالح عليه السلام وبين قومه وما كان عليه قومه من الجهل والعناد في قولهم‏:‏ ‏{‏قد كنت فينا مرجوا قبل هذا‏}‏ أي كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت ‏{‏أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا‏}‏، وما كان عليه أسلافنا، ‏{‏وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب‏}‏ أي شك كثير، ‏{‏قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي‏}‏ فيما أرسلني به إليكم على يقين وبرهان، ‏{‏وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من اللّه إن عصيته‏}‏، وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة اللّه وحده، فلو تركته لما نفعتموني ولما زدتموني ‏{‏غير تخسير‏}‏ أي خسارة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏64 ‏:‏ 68‏)‏

‏{‏ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ‏.‏ فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ‏.‏ فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ‏.‏ وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ‏.‏ كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ‏}‏

تقدم في الكلام على هذه القصة مستوفى في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته ها هنا وباللّه التوفيق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏69 ‏:‏ 73‏)

‏{‏ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ‏.‏ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ‏.‏ وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ‏.‏ قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ‏.‏ قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد جاءت رسلنا‏}‏ وهم الملائكة إبراهيم بالبشرى، قيل تبشره بإسحاق، وقيل بهلاك قوم لوط، ويشهد للأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط‏}‏، ‏{‏قالوا سلاما قال سلام‏}‏ أي عليكم، قال علماء البيان‏:‏ هذا أحسن مما حيوه به لأن الرفع يدل على الثبوت والدوام ‏{‏فما لبث أن جاء بعجل حنيذ‏}‏ أي ذهب سريعاً، فأتاهم بالضيافة وهو عجل فتى البقر، ‏{‏حنيذ‏}‏ مشوي على الرضف وهي الحجارة المحماة، هذل معنى ما روي عن ابن عباس وقتادة وغير واحد، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم فقال ألا تأكلون‏}‏ وقد تضمنت هذه الآية آداب الضيافة من وجه كثيرة، وقوله‏:‏ ‏{‏فلما

رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم‏}‏ ينكرهم، ‏{‏وأوجس منهم خيفة‏}‏ وذلك أن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام ولا يشتهونه ولا يأكلونه، فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاء به فارغين عنه بالكلية، فعند ذلك نكرهم ‏{‏وأوجس منهم خيفة‏}‏ قال السدي‏:‏ لما بعث اللّه الملائكة لقوم لوط أقبلت تمشي في صورة رجال شبان حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه، فلما رآهم أجلَّهم ‏{‏فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين‏}‏ فذبحه ثم شواه في الرضف وأتاهم به فقعد معهم، وقامت سارة تخدمهم، فذلك حين يقول ‏{‏وامرأته قائمة‏}‏ امرأة إبراهيم‏:‏ هي سارة، والغلام الذي بشرت به - كما ذكره السهيلي - هو إسحاق، قال‏:‏ ولم تلد سارة لإبراهيم غيره، وأما إسماعيل فهو بكره من هاجر القبطية وهو جالس، فلما قربه إليهم ‏{‏قال ألا تأكلون‏}‏‏؟‏ قالوا‏:‏ يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن، قال‏:‏ فإن لهذا ثمناً، قالوا‏:‏ وما ثمنه‏؟‏ قال‏:‏ تذكرون اسم اللّه على أوله وتحمدونه على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال‏:‏ حق لهذا أن يتخذه ربه خليلاً ‏{‏فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم‏}‏، يقول فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم وأوجس منهم خفية، وقالت سارة‏:‏ عجباً لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا كرامة لهم وهم لا يأكلون طعامنا‏؟‏‏!‏ ‏{‏قالوا لا تخف‏}‏ أي قالوا لا تخف منا إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكم، فضحكت سارة استبشاراً بهلاكهم لكثرة فسادهم، وغلظ كفرهم وعنادهم، قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏فضحكت‏}‏ أي حاضت، وقول وهب بن منبه‏:‏ إنما ضحكت لما بشرت بإسحاق، فمخالف لهذا السياق، فإن البشارة صريحة مرتبة على ضحكها ‏{‏فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب‏}‏ أي بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل، فإن يعقوب ولد إسحاق، ومن هنا استدل من استدل بهذه الآية على أن الذبيح إنما هو إسماعيل وأنه يمتنع أن يكون إسحاق لأنه وقعت البشارة به، وأنه سيولد له يعقوب، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده، ووعد اللّه حق لا خلف فيه، فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه، فتعين أن يكون هو إسماعيل، وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه وللّه الحمد، ‏{‏قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا‏}‏ الآية، حكى قولها في هذه الآية كما حكى فعلها في الآية الأخرى، فإنها ‏{‏قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز‏}‏، وفي الذاريات ‏{‏فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم‏}‏، كما جرت به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب، ‏{‏قالوا أتعجبين من أمر اللّه‏}‏ أي قالت الملائكة لها‏:‏ لا تعجبي من أمر اللّه فإنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، فلا تعجبي من هذا وإن كنت عجوزاً عقيماً وبعلك شيخاً كبيراً فإن اللّه على ما يشاء قدير، ‏{‏رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد‏}‏ أي هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله، محمود ممجد في صفاته وذاته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏74 ‏:‏ 76‏)‏

‏{‏ فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ‏.‏ إن إبراهيم لحليم أواه منيب ‏.‏ يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ‏}‏

يخبر تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه لما ذهب عنه الروع، وهو ما أوجس من الملائكة خفية حين لم يأكلوا وبشروه بعد ذلك بالولد وأخبروه بهلاك قوم لوط، أخذ يقول‏:‏ أتهلكون قرية فيها ثلثمائة مؤمن‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، حتى بلغ خمسة، قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ أرأيتكم أن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك، ‏{‏إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته‏}‏ الآية، فسكت عنهم واطمأنت نفسه قاله سعيد بن جبير رضي اللّه عنه ، وقوله‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم لحليم أواه منيب‏}‏ مدحٌ لإبراهيم بهذه الصفات الجميلة، وقد تقدم تفسيرها‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك‏}‏ الآية، أي أنه قد نفذ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم المجرمين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏77 ‏:‏ 79‏)‏

‏{‏ ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ‏.‏ وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ‏.‏ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ‏}‏

يخبر تعالى عن قدوم الملائكة بعدما أعلموا إبراهيم بهلاكهم وفارقوه، فانطلقوا من عنده فأتوا لوطاً عليه السلام، وهم في أجمل صورة تكون على هيئة شبان حسان الوجوه، ابتلاءً من اللّه - وله الحكمة والحجة البالغة - فساءه شأنهم وضاقت نفسه بسببهم، وخشي أن يضيفهم أحد من قومه فينالهم بسوء، ‏{‏وقال هذا يوم عصيب‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ شديد بلاؤه، وذلك أنه علم أنه سيدافع عنهم ويشق عليه ذلك‏.‏ وذكر قتادة أنهم أتوه وهو في أرض له فتضيفوه فاستحيا منهم، فانطلق أمامهم وقال لهم في أثناء الطريق كالمعرض لهم بأن ينصرفوا عنه‏:‏ ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء، ثم مشى قليلاً، ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات، قال قتادة‏:‏ وقد كانوا أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك، قال السدي‏:‏ خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فبلغوا نهر سدوم نصف النهار، ولقوا بنت لوط تستقي، فقالوا‏:‏ يا جارية هل من منزل‏؟‏ فقالت‏:‏ مكانكم حتى آتيكم وفَرِقت عليهم من قومها فأتت أباها، فقالت‏:‏ يا أبتاه أدرك فتياناً على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم أحسن منهم لا يأخذهم قومك، وكان قومه نهوه أن يضيف رجلاً، فقالوا‏:‏ خل عنا فلنضيف الرجال، فجاء بهم فلم يعلم بهم أحد إلا أهل بيته، فخرجت امرأته فأخبرت قومها فجاءوا يهرعون إليه، وقوله‏:‏ ‏{‏يهرعون إليه‏}‏ أي يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك، وقوله‏:‏ ‏{‏ومن قبل كانوا يعملون السيئات‏}‏ أي لم يزل هذا من سجيتهم حتى أخذوا وهم على ذلك الحال، وقوله‏:‏ ‏{‏قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم‏}‏ يرشدهم إلى نساءهم، فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون‏}‏، ‏{‏قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين‏}‏، وقال في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏هؤلاء بناتي هن أطهر لكم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لم يكن بناته ولكن كن من أمته وكل نبي أبو أمته، وكذا روي عن قتادة وغير واحد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا اللّه ولا تخزون في ضيفي‏}‏ أي اقبلوا ما آمركم به من الاقتصار على نسائكم، ‏{‏أليس منكم رجل رشيد‏}‏ أي فيه خير، يقبل ما آمره به ويترك ما أنهاه عنه، ‏{‏قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق‏}‏ أي إنك لتعلم أن نساءنا لا أرب لنا فيهن ولا نشتهيهن، ‏{‏وإنك لتعلم ما نريد‏}‏ أي ليس لنا غرض إلا في الذكور وأنت تعلم ذلك، فأي حاجة في تكرار القول علينا في ذلك‏؟‏ قال السدي‏:‏

‏{‏وإنك لتعلم ما نريد‏}‏ إنما نريد الرجال‏.‏

 الآية رقم ‏(‏80 ‏:‏ 81‏)‏

‏{‏ قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ‏.‏ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن نبيّه لوط عليه السلام إن لوطاً توعدهم بقوله‏:‏ ‏{‏لو أن لي بكم قوة‏}‏ الآية، أي لكنت نكلت بكم وفعلت بكم الأفاعيل بنفسي وعشيرتي، ولهذا ورد في الحديث‏:‏ ‏(‏رحمة اللّه على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني اللّه عزَّ وجلَّ - فما بعث اللّه بعده من نبي إلا في ثروة من قومه‏)‏، فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم رسل اللّه إليه، وأنهم لا وصول لهم إليه، ‏{‏قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك‏}‏ وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل وأن يتبع أدبارهم، أي يكون ساقة لأهله، ‏{‏ولا يلتفت منكم أحد‏}‏ أي إذا سمعت ما نزل بهم ولا تهولنكم تلك الأصوات المزعجة، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك‏}‏، ذكروا أنها خرجت معهم ولما سمعت الوجبة التفت وقالت‏:‏ واقوماه، فجاءها حجر من السماء فقتلها، ثم قربوا له هلاك قومه تبشيراً له لأنه قال لهم أهلكوهم الساعة، فقالوا‏:‏ ‏{‏إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب‏}‏‏؟‏ هذا وقوم لوط وقوف على الباب وعكوف، وقد جاءوا يهرعون إليه من كل جانب، ولوط واقف على الباب يدافعهم ويردعهم وينهاهم عما هم فيه، وهم لا يقبلون منه، بل يتوعدونه ويتهددونه، فعند ذلك خرج عليهم جبريل عليه السلام، فضرب وجوههم بجناحه فطمس أعينهم، فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر‏}‏ الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏82 ‏:‏ 83‏)‏

‏{‏ فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ‏.‏ مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاء أمرنا‏}‏ وكان ذلك عند طلوع الشمس ‏{‏جعلنا عاليها‏}‏ وهي سدوم ‏{‏سافلها‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏فغشاها ما غشى‏}‏، ‏{‏وأمطرنا عليها حجارة من سجيل‏}‏ أي حجارة من طين، قاله ابن عباس وغيره‏.‏ وقد قاله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏حجارة من طين‏}‏ أي مستحجرة قوية شديدة، وقال بعضهم‏:‏ مشوية، وقال البخاري‏:‏ ‏{‏سجيل‏}‏ الشديد الكبير، سجيل وسجين اللام والنون أختان، وقوله‏:‏ ‏{‏منضود‏}‏ قال بعضهم‏:‏ منضودة في السماء أي معدة لذلك‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ‏{‏منضود‏}‏ أي يتبع بعضهم بعضاً في نزولها عليهم، وقوله‏:‏ ‏{‏مسومة‏}‏ أي معلمة كل حجر مكتوب عليه اسم الذي ينزل عليه، فبينا أحدهم يكون عند الناس يتحدث، إذ جاءه حجر من السماء فسقط عليه من بين الناس فدمره، فتتبعهم الحجارة من سائر البلاد حتى أهلكتهم عن آخرهم، فلم يبق منهم أحد، وقال مجاهد‏:‏ أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم كفأها؛ وكان حملهم على خوافي جناحه الأيمن، ولما قلبها كان أول ما سقط منها شرفاتها‏.‏ وقال قتادة وغيره‏:‏ بلغنا أن جبريل عليه السلام لما أصبح نشر جناحه فانتسف بها أرضهم بما فيهم من قصورها ودوابها وحجارتها وشجرها وجميع ما فيها، فضمها في جناحه، فحواها وطواها في جوف جناحه، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب، وكانوا أربعة آلاف ألف، ثم قلبها، فأرسلها إلى الأرض منكوسة، ودمدم بعضها على بعض، فجعل عليها سافلها، ثم أتبعها حجارة من سجيل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل‏}‏ فأهلكها اللّه وما حولها من الؤتفكات‏.‏ وقال السدي‏:‏ لما أصبح قوم لوط نزل جبريل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتى بلغ بها السماء، حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم وأصوات ديوكهم ثم قلبها فقتلهم فذلك قوله‏:‏ ‏{‏والمؤتفكة أهوى‏}‏، ومن لم يمت حتى سقط للأرض أمطر اللّه عليه وهو تحت الأرض الحجارة، ومن كان منهم شاذاً في الأرض يتبعهم في القرى، فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله؛ فذلك قوله

عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وأمطرنا عليها‏}‏ أي في القرى حجارة من سجيل، وقوله‏:‏ ‏{‏وما هي من الظالمين ببعيد‏}‏ أي وما هذه النقمة ممن تشبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏84‏)‏

‏{‏ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏؟‏‏؟‏‏{‏ولقد أرسلنا إلى مدين‏}‏ وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون بين الحجاز والشام قريباً من معان، بلاداً تعرف بهم يقال لها مدين ، فأرسل اللّه إليهم شعيباً وكان من أشرافهم نسباً، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أخاهم شعيبا‏}‏ يأمرهم بعبادة اللّه تعالى وحده لا شريك له وينهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان، ‏{‏إني أراكم بخير‏}‏ أي في معيشتكم ورزقكم، وإني أخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم اللّه، ‏{‏وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط‏}‏ أي في الدار الآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏85 ‏:‏ 86‏)‏

‏{‏ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ‏.‏ بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ‏}‏

نهاهم أولاً عن نقص المكيال والميزان إذا أعطوا الناس، ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن، ونهاهم عن العثو في الأرض بالفساد وقد كانوا يقطعون الطريق، وقوله‏:‏ ‏{‏بقية اللّه خير لكم‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ رزق اللّه خير لكم، وقال الحسن‏:‏ رزق اللّه خير لكم من بخسكم الناس، وقال الربيع‏:‏ وصية اللّه خير لكم، وقال مجاهد‏:‏ طاعة اللّه، وقال قتادة‏:‏ حظكم من اللّه خير لكم‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ أي ما يفضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس، قلت‏:‏ ويشبه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وما أنا عليكم بحفيظ‏}‏ أي برقيب ولا حفيظ، أي افعلوا ذلك للّه عزَّ وجلَّ، لا تفعلوا ليراكم الناس بل للّه عزَّ وجلَّ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏87‏)‏

‏{‏ قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد ‏}‏

يقولون له على سبيل التهكم - قبحهم اللّه - ‏{‏أصلاتك‏}‏ أي قراءتك قاله الأعشى ، ‏{‏تأمرك

أن نترك ما يعبد آباؤنا‏}‏ أي الأوثان والأصنام، ‏{‏أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء‏}‏ فنترك التطفيف عن قولك، وهي أموالنا نفعل فيها ما نريد، قال الحسن في الآية‏:‏ أي واللّه إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم، وقال الثوري في قوله‏:‏ ‏{‏أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء‏}‏‏؟‏ يعنون الزكاة، ‏{‏إنك لأنت الحليم الرشيد‏؟‏‏!‏‏}‏ يقول ذلك أعداء اللّه على سبيل الاستهزاء قبحهم اللّه ولعنهم وقد فعل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏88‏)‏

‏{‏ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ‏}‏

يقول لهم أرأيتم يا قوم ‏{‏إن كنت على بينة من ربي‏}‏ أي على بصيرة فيما أدعو إليه، ‏{‏ورزقني منه رزقا حسنا‏}‏ قيل‏:‏ أراد النبوة، وقيل‏:‏ أراد الرزق الحلال ويحتمل الأمرين، قال الثوري‏:‏ ‏{‏وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه‏}‏ أي لا أنهاكم عن الشيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم، وقال قتادة‏:‏ لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه، ‏{‏إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت‏}‏ أي فيما آمركم وأنهاكم إنما أريد إصلاحكم جهدي وطاقتي، ‏{‏وما توفيقي‏}‏ في إصابة الحق فيما أريده ‏{‏إلا باللّه عليه توكلت‏}‏ في جميع أموري ‏{‏وإليه أنيب‏}‏ أي أرجع، قاله مجاهد‏.‏ روى الإمام أحمد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الأنصاري قال‏:‏ سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقول عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه قريب منكم فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏ ومعناه واللّه أعلم‏:‏ مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به، ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه ‏{‏وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه‏}‏، قال أبو سليمان الضبي‏:‏ كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي، فيكتب في آخرها‏:‏ وما كانت من ذلك إلا كما قال العبد الصالح ‏{‏وما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت وإليه أنيب‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏89 ‏:‏ 90‏)‏

‏{‏ ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد ‏.‏ واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ‏}‏

يقول لهم‏:‏ ‏{‏ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي‏}‏ أي لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد، فيصبيكم مثل ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط من النقمة والعذاب، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي‏}‏ يقول‏:‏ لا يحملنكم فراقي، وقال السدي‏:‏ عداوتي، على أن تمادوا في الضلال والكفر فيصيبكم من العذاب ما أصابهم، ولما أحاط الناس بعثمان بن عفان أشرف عليهم من داره فقال‏:‏ ‏{‏ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح‏}‏، يا قوم لا تقتلوني، إنكم إن قتلتموني كنتم

هكذا، وشبك بين أصابعه ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وما قوم لوط منكم ببعيد‏}‏ قيل المراد في الزمان، قال قتادة‏:‏ يعني إنما هلكوا بين أيديكم بالأمس، وقيل‏:‏ في المكان، ويحتمل الأمران، ‏{‏واستغفروا ربكم‏}‏ من سالف الذنوب، ‏{‏ثم توبوا إليه‏}‏ فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة ‏{‏إن ربي رحيم ودود‏}‏ لمن تاب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏91 ‏:‏ 92‏)‏

‏{‏ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ‏.‏ قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ‏}‏

يقولون‏:‏ ‏{‏يا شعيب ما نفقه‏}‏ ما نفهم ‏{‏كثيرا‏}‏ من قولك، ‏{‏وإنا لنراك فينا ضعيفا‏}‏ روي عن سعيد بن جبير والثوري أنهما قالا‏:‏ كان شعيب ضرير البصر ، قال السدي‏:‏ أنت واحد، وقال أبو روق‏:‏ يعنون ذليلاً، لأن عشيرتك ليسوا على دينك، ‏{‏ولولا رهطك لرجمناك‏}‏ أي قومك لرجمناك‏}‏ قيل‏:‏ بالحجارة، وقيل‏:‏ لسببناك، ‏{‏وما أنت علينا بعزيز‏}‏ أي ليس عندنا لك معزة، ‏{‏قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من اللّه‏}‏، يقول‏:‏ أتتركوني لأجل قومي، ولا تتركوني إعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى أن تنالوا نبيّه بمساءة وقد اتخذتم جانب اللّه ‏{‏وراءكم ظهريا‏}‏ أي نبذتموه خلفكم لا تطيعونه ولا تعظمونه، ‏{‏إن ربي بما تعملون محيط‏}‏ أي هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم عليها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏93 ‏:‏ 95‏)‏

‏{‏ ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ‏.‏ ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ‏.‏ كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ‏}‏

لما يئس نبي اللّه شعيب من استجابتهم له قال‏:‏ يا قوم ‏{‏اعملوا على مكانتكم‏}‏ أي طريقتكم، وهذا تهديد شديد ‏{‏إني عامل‏}‏ على طريقتي، ‏{‏سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب‏}‏، أي مني ومنكم، ‏{‏وارتقبوا‏}‏ أي انتظروا، ‏{‏إني معكم رقيب‏}‏، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏جاثمين‏}‏ أي هامدين لا حراك بهم‏.‏ وذكر ههنا أنه أتتهم صحية، وفي الأعراف رجفة، وفي الشعراء ‏{‏عذاب يوم الظلة‏}‏، وهم أمة واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها، وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه، وقوله‏:‏ ‏{‏كأن لم يغنوا فيها‏}‏ أي يعيشوا في دارهم قبل ذلك ‏{‏ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود‏}‏ وكانوا جيرانهم قريباً منهم في الدار، وشبيهاً بهم في الكفر وكانوا عرباً مثلهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏96 ‏:‏ 99‏)‏

‏{‏ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ‏.‏ إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد ‏.‏ يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ‏.‏ وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن إرسال موسى بآياته ودلالاته الباهرة إلى فرعون ملك القبط وملئه ‏{‏فاتبعوا أمر فرعون‏}‏ أي منهجه ومسلكه وطريقته في الغي، ‏{‏وما أمر فرعون برشيد‏}‏ أي ليس فيه رشد ولا هدى، وإنما هو جهل وضلال وكفر وعناد؛ وكما أنهم اتبعوه في الدنيا وكان مقدمهم ورئيسهم، كذلك هو يقدمهم يوم القيامة إلى نار جهنم، ‏{‏يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار، وبئس الورد المورود‏}‏، وكذلك شأن المتبوعين يكونون موفرين في العذاب يوم القيامة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لكل ضعف ولكن لا تعلمون‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا آتهم ضعفين من العذاب‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة‏}‏ الآية، أي أتبعناهم زيادة على عذاب النار لعنة في الدنيا، ‏{‏ويوم القيامة بئس الرفد المرفود‏}‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ زيدوا لعنة يوم القيامة فتلك لعنتان، وقال ابن عباس‏:‏ لعنة الدنيا والآخرة وكذا قال الضحاك وقتادة ، وهو كقوله‏:‏ ‏{‏وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏100 ‏:‏ 101‏)‏

‏{‏ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ‏.‏ وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب ‏}‏

لما ذكر تعالى خبر الأنبياء وما جرى لهم من أممهم وكيف أهلك الكافرين ونجى المؤمنين، قال‏:‏ ‏{‏ذلك من أنباء القرى‏}‏ أي أخبارهم، ‏{‏نقصه عليك منها قائم‏}‏ أي عامر، ‏{‏وحصيد‏}‏ أي هالك، ‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ أي إذ أهلكناهم ‏{‏ولكن ظلموا أنفسهم‏}‏ بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم، ‏{‏فما أغنت عنهم آلهتهم‏}‏ أوثانهم التي يعبدونها ويدعونها ‏{‏من دون اللّه من شيء‏}‏ ما نفعوهم ولا أنقذوهم بإهلاكهم، ‏{‏وما زادوهم غير تتبيب‏}‏‏.‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ أي غير تخسير، وذلك أن سبب هلاكهم ودمارهم إنما كان باتباعبهم تلك الآلهة، فلهذا خسروا في الدنيا والآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏102‏)‏

‏{‏ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بأشباههم،

‏{‏إن أخذه أليم شديد‏}‏‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏)‏، ثم قرأ صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة‏}‏ الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏103 ‏:‏ 105‏)‏

‏{‏ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ‏.‏ وما نؤخره إلا لأجل معدود ‏.‏ يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ إن في إهلاكنا الكافرين وإنجائنا المؤمنين ‏{‏لآية‏}‏ أي عظة واعتباراً على صدق موعودنا في الآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك يوم مجموع له الناس‏}‏ أي أولهم وآخرهم، كقوله‏:‏ ‏{‏وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا‏}‏، ‏{‏وذلك يوم مشهود‏}‏ أي عظيم تحضره الملائكة، ويجتمع فيه الرسل وتحشر الخلائق بأسرهم،

من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب، ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، وقوله‏:‏ ‏{‏وما نؤخره إلا لأجل معدود‏}‏ أي ما نؤخر إقامة القيامة إلا لأنه قد سبقت كلمة اللّه في وجود أناس معدوين من ذرية آدم، ضرب مدة معينة إذا انقطعت وتكامل وجود أولئك المقدر

خروجهم قامت الساعة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وما نؤخره إلا لأجل معدود‏}‏ أي لمدة مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينقص منها، ‏{‏يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه‏}‏ أي يأتي يوم القيامة لا يتكلم أحد إلا بإذن اللّه، كقوله‏:‏ ‏{‏لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا‏}‏، وفي الصحيحين في حديث الشفاعة‏:‏ ‏(‏ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلّمْ سلّمْ‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فمنهم شقي وسعيد‏}‏ أي فمن أهل الجمع شقي ومنهم سعيد، كما قال‏:‏ ‏{‏فريق في الجنة وفريق في السعير‏}‏، ثم بيّن تعالى حال الأشقياء وحال السعداء فقال‏:‏

 الآية رقم ‏(‏106 ‏:‏ 107‏)‏

‏{‏ فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ‏.‏ خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏لهم فيها زفير وشهيق‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر، أي تنفسهم زفير وأخذهم النفس شهيق، لما هم فيه من العذاب، ‏{‏خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبداً قالت‏:‏ هذا دائم، دوام السماوات والأرض، وكذلك يقولون‏:‏ هو باق ما اختلف الليل والنهار، يعنون بذلك كله أبداً، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم، فقال‏:‏ ‏{‏خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض‏}‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن المراد بما دامت السماوات والأرض الجنس، لأنه لا بد في عالم الآخرة

من سماوات وأرض، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات‏}‏، ولهذا قال الحسن البصري في قوله‏:‏ ‏{‏ما دامت السماوات والأرض‏}‏ قال‏:‏ يقول سماء غير هذه السماء وأرض غير هذه، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض، وعن ابن عباس قال‏:‏ لكل جنة سماء وأرض، وقال ابن أسلم‏:‏ ما دامت الأرض أرضاً والسماء سماء، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم‏}‏، وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء على أقوال كثيرة نقل كثيراً منها ابن جرير رحمه اللّه، واختار أن الاستثناء عائد على العصاة من أهل التوحيد، ممن يخرجهم اللّه من النار بشفاعة الشافعين، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين، فتخرج من لم يعمل خيراً قط، وقال يوماً من الدهر

‏{‏لا إله إلا اللّه‏}‏، كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها، وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديماً وحديثاً، وقال السدي‏:‏ هي منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها أبدا‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏108‏)‏

‏{‏ وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وأما الذين سعدوا‏}‏ وهم أتباع الرسل ‏{‏ففي الجنة‏}‏ أي فمأواهم الجنة، ‏{‏خالدين فيها‏}‏ أي ماكثين فيها أبداً، ‏{‏ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك‏}‏ معنى الاستثناء ههنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمراً واجباً بذاته، بل هو موكول إلى مشيئة اللّه تعالى، فله المنة عليهم دائماً، وعقّب ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏عطاء غير مجذوذ‏}‏ أي غير مقطوع قاله مجاهد وابن عباس وأبو العالية وغير واحد ، لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة أن ثم انقطاع أو لبس أو شيء، بل حتم له بالدوام وعدم الانقطاع، ‏{‏إن ربك فعال لما يريد‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏لا يسئل عما يفعل وهم يسألون‏}‏، وهنا طيَّب القلوب وثَّبت المقصود بقوله‏:‏ ‏{‏عطاء غير مجذوذ‏}‏‏.‏ وقد جاء في الصحيحين‏:‏ ‏(‏يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت‏)‏، وفي الصحيح أيضاً‏:‏ ‏(‏فيقال‏:‏ يا أهل الجنة إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً‏)‏

 الآية رقم ‏(‏109 ‏:‏ 111‏)‏

‏{‏ فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ‏.‏ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب ‏.‏ وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء‏}‏ المشركون إنه باطل وجهل وضلال، فإنهم إنما يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل، أي ليس لهم مستند فيما هم فيه إلا اتباع الآباء في الجهالات وسيجزيهم اللّه على ذلك أتم الجزاء، قال سفيان الثوري، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص‏}‏، قال‏:‏ ما وعدوا من خير أو شر، وقال ابن أسلم‏:‏ لموفوهم من العذاب نصيبهم غير منقوص، ثم ذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب فاختلف الناس فيه فمن مؤمن به ومن كافر به، فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك يا محمد أسوة، فلا يغظنك تكذيبهم لك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم‏}‏‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ لولا ما تقدم من تأجليه العذاب إلى أجل معلوم لقضى اللّه بينهم، ويحتمل أن يكون المراد بالكلمة أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه كما قال‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏}‏، ثم أخبر تعالى أنه سيجمع الأولين والآخرين من الأمم ويجزيهم بأعمالهم فقال‏:‏ ‏{‏وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير‏}‏ أي عليم بأعمالهم جميعاً، جليلها وحقيرها صغيرها وكبيرها، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تركنوا إلى الذين ظلموا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو الركون إلى الشرك، وقال أبو العالية‏:‏ لا ترضوا بأعمالهم؛ وقال ابن جرير عن ابن عباس‏:‏ ولا تميلوا إلى الذين ظلموا؛ وهذا القول حسن، أي لا تسعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بأعمالهم، ‏{‏فتمسكم النار وما لكم من دون اللّه من أولياء ثم لا تنصرون‏}‏ أي ليس لكم من دونه من ولي ينقذكم، ولا ناصر يخلصكم من عذابه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏112 ‏:‏ 113‏)‏

‏{‏ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ‏.‏ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ‏}‏

يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون

على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد، وينهى عن الطغيان وهو البغي، فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك، وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد لا يغفل عن شيء ولا يخفى عليه شيء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏114 ‏:‏ 115‏)‏

‏{‏ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ‏.‏ واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار‏}‏ قال‏:‏ يعني الصبح والمغرب، وقال الحسن‏:‏ هي الصبح والعصر، وقال مجاهد‏:‏ هي الصبح في أول النهار والظهر والعصر مرة أخرى، ‏{‏وزلفا من الليل‏}‏ يعني صلاة العشاء وهو قول ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وغيرهم ، وقال مجاهد والضحاك‏:‏ إنها صلاة المغرب والعشاء؛ وقد يحتمل أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، فإنه إنما كان يجب من الصلاة صلاتان‏:‏ صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها، وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى الأمة، ثم نسخ في حق الأمة، وثبت وجوبه عليه، ثم نسخ عنه أيضاً، واللّه أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏ يقول‏:‏ إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال‏:‏ كنت إذا سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حديثاً نفعني اللّه بما شاء أن ينفعني منه، وإذا حدثني عنه أحد استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر له‏)‏، وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان‏:‏ أنه توضأ لهم كوضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قال‏:‏ هكذا رأيت رسول اللّه يتوضأ وقال‏:‏ ‏(‏من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيها نفسه، غفر له ما تقد من من ذنبه‏)‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر‏.‏ وقال البخاري، عن ابن مسعود، أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات‏}‏، فقال الرجل‏:‏ يا رسول اللّه ألي هذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لجميع أمتي كلهم‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري ورواه مسلم وأحمد وأصحاب السنن إلا أبا داود‏"‏‏.‏

وروى الإمام أحمد، عن عبد اللّه بن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن اللّه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه اللّه الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه‏)‏ قال، قلنا‏:‏ وما بوائقه يا نبي اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏غشه وظلمه، ولا يكسب عبد مالاً حراماً فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيتقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن اللّه لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث‏)‏، وروى الإمام أبو جعفر بن جرير عن أبي اليسر كعب بن عمرو الأنصاري قال‏:‏ أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمراً، فقلت‏:‏ إن في البيت تمراً أجود من هذا، فدخلت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت عمر فسألته فقال‏:‏ اتق اللّه واستر على نفسك، ولا تخبرنّ أحداً، فلم اصبر حتى أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته فقال‏:‏ ‏(‏أخلفتَ رجلاً غازياً في سبيل اللّه في أهله بمثل هذا‏؟‏‏)‏ حتى ظننت أني من أهل النار، حتى تمنيت أني أسلمت ساعتئذ ، فأطرق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ساعة، فنزل جبريل، فقال‏:‏ أبو اليسر‏:‏ فجئت فقرأ عليَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين‏}‏ فقال إنسان‏:‏ يا رسول اللّه أله خاصة أم للناس عامة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏للناس عامة‏)‏ وعن أبي ذر، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اتق اللّه حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد‏"‏، وفي رواية عنه قال، قلت‏:‏ يا رسول اللّه أوصني، قال‏:‏ ‏(‏إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها‏(‏، قال، قلت‏:‏ يا رسول اللّه أمن الحسنات لا إله إلا اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هي أفضل الحسنات‏)‏ رواه أحمد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏116 ‏:‏117‏)‏

‏{‏ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ‏.‏ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير، ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا قليلا‏}‏ أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيراً وهم الذين أنجاهم اللّه عند حلول غضبه وفجأة نقمته، ولهذا أمر اللّه تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون‏}‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم اللّه بعقاب‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه‏}‏ أي استمروا على ما عليه من المعاصي والمنكرات، ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك حتى فجأهم العذاب، ‏{‏وكانوا مجرمين‏}‏، ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، ولم يأت قرية مصلحة نقمته وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما ربك بظلام للعبيد‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏118 ‏:‏ 119‏)‏

‏{‏ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ‏.‏ إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ‏}‏

يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان أو كفر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك‏}‏ أي ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم، قال عكرمة‏:‏ مختلفين في الهدى، وقوله‏:‏ ‏{‏إلا من رحم ربك‏}‏ أي إلا المرحومين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين، أخبرتهم به رسل اللّه إليهم ولم يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي وخاتم الرسل والأنبياء فاتبعوه وصدقوه ووازروه، ففاز بسعادة الدنيا والآخرة، لأنهم الفرقة الناجية، وقال عطاء‏:‏ ‏{‏ولا يزالون مختلفين‏}‏ يعني اليهود والنصارى والمجوس ‏{‏إلا من رحم ربك‏}‏ يعني الحنيفية، وقال قتادة‏:‏ أهل رحمة اللّه‏:‏ أهل الجماعة وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل الفرقة، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولذلك خلقهم‏}‏، قال الحسن البصري‏:‏ وللاختلاف خلقهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ خلقهم فريقين كقوله‏:‏ ‏{‏فمنهم شقي وسعيد‏}‏، وعن ابن عباس قال‏:‏ للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب‏.‏ ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏، وقيل‏:‏ بل المراد وللرحمة والاختلاف خلقهم، كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يزالون مختلفين‏}‏، قال‏:‏ الناس مختلفون على أديان شتى ‏{‏إلا من رحم ربك‏}‏، فمن رحم ربك غير مختلف، فقيل له لذلك خلقهم، قال‏:‏ خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره، خلق هؤلاء لعذابه، وقال ابن وهب‏:‏ سألت مالكاً عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم‏}‏ قال‏:‏ فريق في الجنة وفريق في السعير، وقد اختار هذا القول ابن جرير، وقوله‏:‏ ‏{‏وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏ يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره لعلمه التام وحكمته النافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النار، وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس وله الحجة البالغة والحكمة التامة، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة‏:‏ ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار‏:‏ أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، فقال اللّه عزَّ وجلَّ للجنة‏:‏ أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار‏:‏ أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما الجنة فلا يزال فيها فضل حتى ينشئ اللّه لها خلقاً يسكن فضل الجنة، وأما النار فلا تزال تقول‏:‏ ‏{‏هل من مزيد‏}‏ حتى يضع عليها رب العزة قدمه فتقول‏:‏ قط قط وعزتك‏)

 الآية رقم ‏(‏120‏)‏

‏{‏ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ وكل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم، وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من الكتذيب والأذى، وكيف نصر اللّه حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين، كل هذا مما ‏{‏نثبت به فؤادك‏}‏ أي قلبك يا محمد ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسوة، وقوله‏:‏ ‏{‏وجاءك في هذه الحق‏}‏ أي في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء، وكيف أنجاهم اللّه والمؤمنين بهم، وأهلك الكافرين، جاءك فيها قصص حق ونبأ صدق وموعظة يرتدع بها الكافرون، وذكرى يتذكر بها المؤمنون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏121 ‏:‏ 122‏)‏

‏{‏ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ‏.‏ وانتظروا إنا منتظرون ‏}‏

يقول تعالى آمراً رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه على وجه التهديد ‏{‏اعملوا على مكانتكم‏}‏ أي على طريقتكم ومنهجكم، ‏{‏إنا عاملون‏}‏ أي على طريقتنا ومنهجنا، ‏{‏وانتظروا إنا منتظرون‏}‏ أي ‏{‏فستعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون‏}‏، وقد أنجز اللّه لرسوله وعده وأيده، وجعل كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى واللّه عزيز حكيم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏123‏)‏

‏{‏ ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون ‏}‏

يخبر تعالى أنه عالم السماوات والأرض وأنه إليه المرجع والمآب، وسيؤتي كل عامل عمله يوم الحساب، فله الخلق والأمر، فأمر تعالى بعبادته والتوكل عليه‏.‏ فإنه كاف من توكل عليه وأناب إليه، وقوله‏:‏ ‏{‏وما ربك بغافل عما تعملون‏}‏ أي ليس يخفى عليه ما عليه مكذبوك يا محمد بل هو عليم بأحوالهم وأقوالهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة وسنصرك وحزبك عليهم في الدارين‏.‏